يقول الشاعر: ما كل ما يتمنى المرء يدركه، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فلماذا لا ندرك ما نشتهيه كمربين وآباء وأمهات في تربيتنا لأبنائنا؟ لماذا لا نرى النتائج التي نتمناها في تربيتنا لأبنائنا؟ لماذا نزرع الاهتمام والرعاية والسهر والأموال والتفكير والاجتهاد والنصح المتتالي والمتكرر ثم لا نحصد سوى العقوق أو الفشل أو الأطفال المعقدين أو الأبناء العصاة أو البنات المتمردات أو الرغبة في الخروج عن النص؟ ما السبب مع كل حرصنا على تربية أبنائنا بشكل سليم وجيد؟
في هذا المقال الذي نستقيه من المحاضرة الرائعة للدكتورة آلاء نصيف، نحاول الوصول لإجابة عن هذه الأسئلة، لنحلل لماذا لا نحصد ثمار التربية، وكيف نزرع البذور الصحيحة، وما الممارسات الخاطئة التي يجب علينا تقويمها وتصحيحها حتى نرى الغراس القوي والسليم في أبنائنا وأطفالنا.
دعونا نبدأ بسؤال افتراضي:
هل نرغب كآباء في تدمير أو إفساد أبنائنا؟
بالتأكيد لا..
لكن النوايا والرغبات الحسنة لم تكن أبدًا كافية، بل إن حكيمًا قال يومًا ما: طريق الجحيم معبد بالنوايا الحسنة، ما يهم ويؤثر هو القناعات ثم التصرفات التي تنتج عن هذه القناعات.
عندما تأتينا المئات من الشكاوى يوميًا عن الآباء المتعسفين والنرجسيين الذين يفرضون آرائهم وما يرونه هم صحيحًا على أبنائهم دون نقاش أو تفاهم فاعلم إن المشكلة في القناعات.
الأبناء أشجار..نزرع فيها سلوكياتنا ونحصد منها سلوكياتهم
جذور هذه الشجرة مظلة كبيرة تضم تحتها: تصرفاتنا، ومواقفنا، وردود أفعالنا، وقراراتنا بالتواجد من عدمه، وأولوياتنا، وقيمنا، ووصايانا، وتعاملنا مع الآخرين، وكل ما نزرعه في عقول وقلوب أبنائنا.
وبالمقابل سنحصد الثمار في أبنائنا؛ في مواقفهم، وتصرفاتهم، وردود أفعالهم، وقراراتهم بالتواجد معنا وقت حاجتنا، وأولوياتهم، وقيمهم، وعلاقتهم بالآخرين.
إذا تعاملت مع ابني بالضرب والعنف فأنا أزرع في جذوره العنف وأتوقع أن أجني في الثمار طفلًا عنيفًا، فالأطفال مثل الاسفنج مثلما شكلتهم تشكلوا، ومثلما غرست فيهم تشربوا.
قد تختلف النتائج في شدتها من طفل لآخر لكن حتمًا ستتأثر بما زرعناه في الجذور، ولنضرب مثالًا يوضح هذه النقطة:
أحد الآباء دخل إلى البيت متأففًا يصرخ في الأم، ولديه 6 أطفال..بالطبع سيكون لكل طفل رأي مختلف وتحليل عن هذا المواقف لكن سيشتركون أن ثمارهم ستتأثر بما زرع في الجذور بهذا الموقف:
قد يرى الإبن الأول: أن هذا ضعف من الأم.
وقد يرى الثاني: أن هذا ظلم من الأب.
وقد يعتقد الثالث: أن هذا هو الطبيعي من الأب بعد الرجوع من العمل.
وقد يفسرها الرابع: بأن استقبال أمه السيء كان السبب في غضب أبيه
وقد يظن الخامس: أن المشكلة في العلاقة وأن الزواج أصلًا شيُ سيء.
وبالمثل: حينما يرى الأبناء والدهم المنشغل بشدة في العمل عن رؤيتهم والتواجد معاهم، قد يفسر ذلك أن العمل أولوية عن المنزل، وقد يعتقد أن الخارج مكان أمتع أكثر من البيت، وهذا ما سنراه لاحقًا ..
إذن علاج الجذور هو أول طريقة لانتظار نتائج أفضل من الثمار وأكثر الجذور ضررًا وأثرا بالغًا هو الخوف.
الخوف .. الجذر الذي لا يثمر أبدًا بالخير
حينما نتحرك بدافع الخوف، تأتي ثمارنا دائمًا مرتبكة مترددة متوترة.
الخوف من الفشل، الخوف من كلام الناس، الخوف من انطباعات الآخرين، الخوف من الإفلاس، حتى إن الله سبحانه وتعالى يقول في سورة الأنعام: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾، لا تخف من الفقر فالله سبحانه وتعالى كما تكفل برزقك سيتكفل برزقك أبنائك، فلا تقلق ولا تتحرك والخشية من المستقبل تملأ قلبك.
القلق يدفعك لمحاولة الظهور كمسيطر دائمًا
فبسبب الخوف والتحفز وحسابات الاحتمالات الدائمة في رؤوسنا، يتخذ الجهاز العصبي سلوكًا تحفزيًا ليثبت للجسم أنه متحكم في الأمور وأنه قادر على ضبط الموازين " كرد فعل اندفاعي للقلق" فينعكس هذا على التفاعل مع الأطفال والتعامل معهم بمبدأ: " نحن من نقرر، من أنتم؟" " اللي أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة " " في عمرك لم أكن أجرؤ على مناقشة أبي أو الاعتراض عليه"
ثم يتسرب شعور أخطر للطفل عندما يحس أن قيمته عند والديه لا تنبع من كونه ابنًا لهم بل تأتي من الإنجازات التي يحققها " النجاح – الدرجات الكاملة – التفوق في النادي ..الخ "، وهذا خاطئ، لماذا؟
صحيح أن التفوق والنجاح وغيرها من الإنجازات أمور هامة وتزيد من سعادتنا بأطفالنا لكننا نحبهم لأنهم أبناؤنا وفلذات أكبادنا ليس لأنهم ناجحين لعدة أسباب: - النجاح متعدد الأوجه، فالفشل الدراسي قد يصحبه نجاح اجتماعي أو نجاح رياضي وهكذا.
- محبتنا ثابتة للطفل لكن النتائج والإنجازات متغيرة فقد يتفوق الابن في فترة ويخفق في أخرى، فهل ننزع وقتها محبتنا وتقديرنا عنه؟ بالطبع لا.
- محبتنا ستدفع الطفل المخفق أن يسعى من جديد ليحقق النجاح، وتشجع الناجح أن يكمل ويطور نجاحاته.
ودعونا نتذكر أن سنن الله في الكون لا تتبدل، وسنن الله نوعان: سنن كونية إلهية لا تتبدل مثل تتابع الليل والنهار، وسنن اجتماعية مثل الرخاء في الدول التي تحقق العدل، والنصر لمن يأخذ بالأسباب ، ومن هذه السنن الاجتماعية: أن المحبة تتبعها الطاعة فحينما نمنح المحبة نجني البر والطاعة.
قوالب ثابتة للتربية...جذر آخر لا يثمر إلا الشوك:
بجانب نقطة المحبة التي أوردناها في الفقرة السابقة، هناك مشكلة التربية بالقوالب حيث يكرر الأب تجربته حينما كان ابنًا مع أبنائه بحذافيره دون فحص هذه التجربة والتحقق من كونها صحيحة أو لا، أو تصلح مع هذا الزمان أو لا.
حذر القرآن من اتباع الآباء دون علم حيث يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ ﴾، وأورد المولى هذا المعنى في كتابه العزيز أكثر من مرة وبأكثر من وجه كي يحذرنا من التقليد الأعمى، واتباع الآباء دون علم، وتقليد الموروثات دون تفكير أو نظر في العواقب، أو إسقاط على ما يصلح لهذا الجيل أو هذا الزمان.
ويروى في الأثر عن مقولة نسبت لسيدنا علي بن أبي طالب ولكنها في الحقيقة لسقراط – وهي ذات معنى صحيح بالمناسبة – حين يقول في هذا السياق: ( لا تكرهوا أولادكم على آثاركم ، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم) " كما ذكر صاحب كتاب إغاثة اللهفان.
إذًا: الخوف والقولبة جذران فاسدان لا يثمران سوى الأذى والشوك، ويجب علينا تهذيبهم واقتلاعهم، ماذا عن باقي الجذور؟
فلنعد النظر في قناعاتنا بتمهل.
كما سبق وذكرنا فنظرتنا للحياة، وتربيتنا لأبنائنا هو انعكاس طبيعي للقناعات التي نؤمن بها شئنا ذلك أم أبينا، فمن يرى أن الحياة اختبار ورحلة سيظهر ذلك في سعيه لغاية الرحلة وهي الآخرة، ومن يزهد في الحياة ويشعر أنه جاء قسرًا إليها سيسعى لإزهاق روحه أو عيش دقائقه المتبقية في الدنيا والخروج منها، ومن يحب الدنيا ويرى أنها المنتهى سيشقى ويكد ويجمع الأموال فوق الأموال حتى يستمتع بكل لحظة فيها متناسيًا أو ناسيًا أن هناك دارًا أخرى، وكذلك تربيتنا لأبنائنا.
فالأم التى ترى أن الحياة كريهة وأن الزواج علاقة سيئة أجبرت عليها هل ستسطيع غرس جذور سليمة في شجراتها الصغيرة؟ الأب الذي يرى أن كل النساء مستغلات وكسالى هل سيقدر على حب بناته وتربيتهن بطريقة مثلى؟
إصلاحنا لأبنائنا يبدأ من مراجعة كل قناعاتنا، وعرضها على الدين لنرى هل تتفق معه أم تختلف، ثم عرضها على مبادئ التربية السليمة المناسبة لهذا العصر وتصحيحها وهذا سيتطلب منا الكثير من المجهود، ولكن الناتج يستحق، وأبناؤنا يستحقون.
وهنا ننتقل لسؤال آخر سيساعدنا أكثر في فهم عملية التربية ونتائجها:
هل نربي بناءً على احتياجاتنا أم احتياجات أبنائنا؟
وحتى نجيب عن هذا السؤال دعونا نتعرف في البداية على هرم ماسلو الذي يحدد احتياجات الإنسان، يبدأ من القاعدة بالاحتياجات الأهم ثم الأقل أهمية حتى يصل للقمة.
فكما نرى في القاعدة حاجات الإنسان الفسيولوجية من الهواء، والماء، ثم الشعور بالأمن ثم الصداقة والألفة، ثم الشعور بالتقدير وينتهي بالرغبة في التميز.
تعالوا نسقط هذا الهرم على أبنائنا:
هم كأطفال يحتاجون في البداية أن نشعرهم بالأمن وأننا معهم وبجوارهم، ثم بالحب والجو الأسري الحميم، لكننا كآباء ولأننا في قمة الهرم نشعر بالرغبة أن يمنحنا أبناؤنا الاحترام وأن يشعرونا بالقوة والثقة ثم التميز على باقي أبناء العائلة أو المنطقة، أو الفخر أن طفلي هو الأول على المدرسة أو بطل اللعبة أو حافظ القرآن بالكامل.
والصحيح والأولى أن نلبي احتياجات الأبناء لا احتياجاتنا من خلالهم، أن نتدرج معهم من قاعدة الهرم إلى قمته وليس العكس.
يجب أن نغرس في الطفل الثقة بالنفس، والشعور الكامل بالدعم والأمان والأهمية وأنه ولد لغاية عظيمة وهي إعمار الأرض، وأنه من أمة أخرجها الله للناس ليصلحوا ويبنوا ويدعوا للدين الحق
كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ فزرع المعاني الكبيرة والوصول لقمة الهرم يأتي بزرع المعاني الصغيرة في البداية والتدرج وهذا أيضًا من سنن الله في الكون.
خطوات عملية حتى نزرع الجذور الصحيحة:
سيسأل سائل: إذن كيف نزرع الجذور الصحيحة؟ كيف نحقق الاحتياجات بترتيبها الطبيعي كما ذكر ماسلو في هرمه؟
البداية تكون بالثقة في أبنائنا، والإيمان الكامل بمواهبهم وقدراتهم، ثم منحهم التجربة والحرية للخطأ دون خوف من نتائج هذا الخطأ، ثم التعديل برفق وإصلاح هذا الخطأ وإعادة المحاولة من جديد، وهكذا في عملية متكررة وطويلة ومتأنية لنخرج أفضل ما في الأبناء بصبر وحكمة وثقة متناهية وحب لا محدود.
مثال:
لماذا لا نضع مثلًا ميزانية مصروفات البيت في شهر ما لأحد الأبناء ونخبره أن ماليات البيت تحت مسؤوليتك هذا الشهر فأنفق بحكمة واختر أساسيات البيت ودعنا نرى ماذا ستصنع حتى نهاية الشهر؟
لماذا لا نترك اختيار المدرسة لابننا، فهذه عدة مدارس قارن يا ولدي بينها واختر ما تراه أنسب وأحب لقلبك؟
لماذا لا نشاور الأبناء في قرار انتقالنا من المدينة لمدينة أخرى والاستماع لآرائهم ثم مناقشتهم فيها؟
الإنصات ثم الإنصات ثم الإنصات..
حتى نسلك خطوات عملية أكثر نحو ثمار صالحة يجب علينا أن نستمع لأبنائنا، وأن ننصت لهم، فحين ترى طفلًا منعزلًا يرفض الطعام ويتمرد على كل شيء لا تعاقبه وحاول أن تعرف ما به، حينما يأتيك ولدك بشهادة ذات درجات منخفضة ويشكو من المدرس لا تتهمه بالدلع والتقصير وحاول أن تسمع منه.
ثم انتقي كلماتك وتعبيراتك في الإجابة عنه فكل الرسائل المبطنة تصل، فحين نخبره مثلًا أنك يجب أن تتوقف عن التهام المزيد من الطعام حتى يصبح جميلًا سيدرك ويترجم هذا أنه قبيح ويكره شكله، لكن بإمكاننا أن نخبره أنه يجب أن يأكل باعتدال لأن هذا ما وصانه به الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُوٓاْ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ ﴾.
ختامًا..
التربية عملية طويلة وشاقة، وزرع الجذور فيها هو الخطوة الأولى والأهم، فلنختر الجذور الصحيحة ولنزرعها بتأنِ وصبر عبر إصلاح قناعاتنا والتوقف عن التحرك بدافع الخوف، وإخلاص النية لله سبحانه وتعالى فكلنا راعٍ وكلنا مسؤول عن رعيتنا، وعبر الاستماع بصدق لأبنائنا، والإجابة بإخلاص وحب، بارك الله لنا في ثمارنا وأصلح لنا شجراتنا وفلذات أكبادنا.
댓글